سورة البقرة - تفسير تفسير القشيري

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


هذه كلمة تعجيب وتعظيم لما فيه العبد، أي لا ينبغي مع ظهور الآيات أن يجنح إلى الكفر قلبُه.
ويقال تعرَّف إلى الخلق بلوائح دلالاته، ولوامع آياته. فقال: {وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً} يعني نطفة، أجزاؤها متساوية، {فَأَحْيَاكُمْ}: بَشَراً اختصَّ بعض أجزاء النطفة بكونه عظماً، وبعضها بكونه لحماً، وبعضها بكونه شَعْراً، وبعضها بكونه جِلداً.. إلى غير ذلك.
{ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} بأن يجعلكم عظاماً ورفاتاً، {ثُمَّ يُحْييكُمْ} بأن يحشركم بعدما صرتم أمواتاً، {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي إلى ما سبق به حكم من السعادة والشقاوة.
ويقال: {كُنْتُمْ أمْوَاتاً} بجهلكم عنّا، ثم {فَأَحْيَاكُمْ} بمعرفتكم بنا، {ثم يميتكم} عن- شواهدكم، {ثم يحييكم} به بأن يأخذكم عنكم، {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي بحفظ أحكام الشرع بإجراء الحق.
ويقال: {وكُنتُمْ أمْواتاً} لبقاء نفوسكم فأحياكم بفناء نفوسكم ثم يميتكم عنكم عن شهود ذلك لئلا تلاحظوه فيفسد عليكم، ثم يحييكم بأن يأخذكم عنكم ثم إليه ترجعون بتقلبكم في قبضته سبحانه وتعالى.
ويقال يحبس عليهم الأحوال؛ فلا حياة بالدوام ولا فناء بالكلية، كلّما قالوا هذه حياة- وبيناهم كذلك- إذ أدال عليهم فأفناهم، فإذا صاروا إلى الفناء أنبتهم وأبقاهم، فهم أبداً بين نفي وإثبات، وبين بقاء وفناءَ، وبين صحو ومحو.. كذلك جرت سنته سبحانه معهم.


قوله جلّ ذكره: {هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأَرْضِ جَمِيعاً}.
سخر لهم جميع المخلوقات على معنى حصول انتفاعهم بكل شيء منها، فعلى الأرض يستقرون وتحت السماء يسكنون، وبالنجم يهتدون، وبكل مخلوق بوجه آخر ينتفعون، لا بل ما من عين وأثر فكروا فيه إلا وكمال قدرته وظهور ربوبيته به يعرفون.
ويقال مَهَّدَ لهم سبيل العرفان، ونبَّهَهُم إلى ما خصَّهم به من الإحسان، ثم علمهم علوَّ الهمة حيث استخلص لنفسه أعمالهم وأحوالهم فقال: {لاَ تَسْجُدُوا للشَّمْسِ وَلاَ لِلقَمَرِ} [فصلت: 37].
قوله جلّ ذكره: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ}.
فالأكوان بقدرته استوت، لا أن الحق سبحانه بذاته- على مخلوق- استوى، وأَنَّى بذلك! والأحدية والصمدية حقه وما توهموه من جواز التخصيص بمكان فمحال ما توهموه، إذ المكان به استوى، لا الحق سبحانه على مكانٍ بذاته استوى.


هذا ابتداء إظهار سِرِّه في آدم وذريته. أَمَرَ حتى سلَّ من كل بقعة طينة ثم أمر بأن يخمر طينه أربعين صباحاً، وكل واحد من الملائكة يفضي العَجَبَ: ما حكم هذه الطينة؟ فلمَّا ركب صورته لم يكونوا رأوا مثلها في بديع الصنعة وعجيب الحكمة، فحين قال: {إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ} تَرَجَّمَتْ الظنون، وتقسَّمت القلوب، وتجنَّت الأقاويل، وكان كما قيل:
وكم أبصرتُ من حسن ولكن *** عليك من الورى وقع اختياري
ويقال إن الله سبحانه وتعالى خلق ما خلق من الأشياء ولم يَقُلْ في شأن شيء منه ما قال في حديث آدم حيث قال: {إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً}، فظاهر هذا الخطاب يشبه المشاورة لو كان من المخلوقين. والحق سبحانه وتعالى خلق الجنان بما فيها، والعرش بما هو عليه من انتظام الأجزاء وكمال الصورة، ولم يقل إني خالق عرشاً أو جنة أو مَلَكاً، وإنما قال تشريفاً وتخصيصاً لآدم إني جاعل في الأرض خليفة.

فصل:
ولم يكن قول الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} على وجه الاعتراض على التقدير ولكن على جهة الاستفهام، فإن حَمْلَ الخطاب على ما يُوجِب تنزيه الملائكة أَوْلى لأنهم معصومون.. قال تعالى: {لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6].
ويقال استخرج الحق سبحانه منهم ما استكنَّ في قلوبهم من استعظام طاعاتهم والملاحظة إلى أفعالهم بهذا الخطاب؛ فأفصحوا عن خفايا أسرارهم بقولهم: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ}. ثم إن الحق سبحانه عرَّفهم أن الفضيلة بالعلم أتمُّ من الفضيلة بالفعل، فهم كانوا أكثر فعلاً وأقدمه، وآدم كان أكثر علماً وأوفره، فظهرت فضيلته ومرتبته.
ويقال لم يقل الحق سبحانه أنتم لا تفسدون فيها ولا تسفكون الدماء بل قال: {إِنِّى أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}، مِنْ غفراني لهم.
ويقال: في تسبيحهم إظهارُ فعلهم واشتهار خصائصهم وفضلهم، ومن غفرانه لمعاصي بني آدم إظهار كرمه سبحانه ورحمته، والحق سبحانه غني عن طاعات كل مطيع، فلئن ظهر بتسبيحهم استحقاق تمدحهم ثبت بالغفران استحقاق تمدح الخالق سبحانه.
ويقال إني أعلم ما لا تعلمون من صفاء عقائد المؤمنين منهم في محبتنا، وذكاء سرائرهم في حفظ عهودنا وإن تدنَّس بالعصيان ظاهرهم، كما قيل:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحدٍ *** جاءت محاسنُه بأَلْفِ شفيع
ويقال إني أعلم ما لا تعلمون من محبتي لهم، وأنتم تظهرون أحوالكم، وأنا أخفي عليهم أسراري فيهم، وفي معناه أنشدوا:
ما حطَّك الواشون عن رتبة *** عندي ولا ضرك مغتاب
كأنهم أثْنَوْا- ولم يعلموا- *** عليك عندي بالذي عابوا
ويقال إني أعلم ما لا تعلمون من انكسار قلوبهم وإن ارتكبوا قبيح أفعالهم، وصولةَ قلوبكم عند إظهار تسبيحكم وتقديسكم، فأنتم في رتبة وفاقكم وفي عصمة أفعالكم، وفي تجميل تسبيحكم، وهم مُنْكَرون عن شواهدهم، متذللون بقلوبهم، وإن لانكسار قلوب العباد عندنا لذماماً قوياً.
ويقال أي خطر لتسبيحكم لولا فضلي، وأي ضرر من ذنوبهم إذا كان عفوي؟ ويقال لبَّسْتُكم طاعتكم ولبستهم رحمتي، فأنتم في صدار طاعتكم وفي حُلَّةِ تقديسكم وتسبيحكم، وهم في تغمد عفوي وفي ستر رحمتي ألبستهم ثوب كَرَمي، وجللتهم رداء عفوي.
ويقال إن أسعدتكم عصمتي فلقد أدركتهم رحمتي.
وإيصال عصمتي بكم عنده وجودكم وتعلُّق رحمتي بهم في أزلي.
ويقال: لئن كان مُحسِنْكم عتيق العصمة فإن مجرمَهُم غريق الرحمة.
ويقال: اتكالهم عليَّ زكّى أحوالهم فألجأهم إلى الاعتراف بالجهالة حتى يتبرأوا عن المعارف إلا بمقدار ما منّ به الحق عليهم فقالوا: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا}.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12